غزة - مشيرة توفيق :
يعاني المشهد الثقافي العربي تدهورًا وجمودًا كبيرين ، وإن من أمثلة تدهوره وجموده أن بات الشباب العربي _ في مجمله _ غارقًا في البعد عن القراءة ، فإذا ما علمنا أن الشباب بدأ يحاول استعادة نشاطه القرائي بمد يده إلى الروايات الأدبية لقراءتها ؛ فهل يحق لنا أن نكون متفائلين ومستبشرين بنهضةٍ ثقافية ٍ قادمة ؟! ، أم من الأولى أن نبحث في أسباب هذا التوجه للرواية ربما يكون خطوةً جديدةً باتجاه المزيد من التدهور ؟! ..
أسماء شاكر صحفية شابة تفضل قراءة الكتب الأدبية خاصة الروايات كونها منتج فني يجسد الواقع تجسيدًا رمزيًا ، ويحفل بالتشويق اللامتناهي .
وتحكي أسماء عن تجربتها مع قراءة الروايات قائلة : " بدأت تجربتي مع القراءة في فترة المراهقة وكان أول كتاب قرأته روايةً ؛ لكنني لم أفهمها ؛ ودفعني هذا للبدء بقراءة روايات الجيب كسلسلة عبير ورجل المستحيل " ؛ وتضيف أسماء : " روايات الجيب كانت المفر الوحيد في ظل افتقاد أدب عربي يوازي إدراكي وحاجاتي كيافعة " .
أما الكتب التي تقرأها الآن فغالبًا ما تكون روايات حديثة الإصدار لكتاب عرب وأجانب .
وتعلل شاكر إقبال الشباب العربي على قراءة الروايات المترجمة بأن الرواية العربية الحديثة غارقة في أعماق فلسفية وصوفية ؛ وتعكس واقعًا مريرًا يعيشه الجميع ، بينما تتمتع نظيرتها المترجمة ببساطة الحبكة وبساطة اللغة ؛ وتنقل صور لواقع يسعى كثير من الشباب العربي إلى استكشافه ؛ وإن كانت في كثير من الأحيان تصطدم بقيم ودين وعادات المجتمع .
وتذكر أسماء قصةً طريفة حدثت معها في يوم من الأيام إذ جذبتها إحدى الروايات المترجمة ، وقررت شراءها لكن محتواها الجريء للغاية دفعها لقراءتها سرًا دون أن يلاحظها أحد من أسرتها ؛ ثم باعتها لإحدى المكتبات ؛ لتكتشف بعدها أن والدها اشترى الرواية نفسها من ذات المكتبة !
وعن الفائدة التي قدمتها قراءة الروايات لأسماء فتمثلت في الارتقاء بكتابتها الصحفية ، ومدها بذخيرة رهيبة من مفردات اللغة العربية .
غيرة ثقافية
وائل عويضة دق باب القراءة في فترة قريبة ؛ فكانت أول خطواته باتجاه ثلاثية الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي ، يقول وائل عن تجربته : " لاحظت أن أصحابي في الجامعة يتبادلون الكتب ، ويطيلون الحديث عن أهمية القراءة ، ويغرقون في تفاصيل الثقافة التي لم أكن أهتم بأمورها ؛ فغرت منهم وطلبت نصيحة أحد أقاربي بخصوص نوعية الكتب التي أقرأها فأشار عليّ بثلاثية أحلام " ؛ مؤكدًا على أن الثلاثية جعلته يعشق القراءة ؛ ومشيرًا إلى أنه سيبدأ في المرحلة القادمة باقتناء الكتب العلمية القادرة على تعليمه فنيات وتقنيات مفيدة .
ويعتقد وائل أن قراءة الشباب للروايات المترجمة لم يكن مطلقًا هبوطًا في ذائقتهم الأدبية والفنية لكنها طريقهم المبتكرة الموصلة إلى الحرية المفقودة في الواقع العربي ، أما روايات الجيب – وقراءتها تجربة لم يخضها وائل لا في صغره ولا في شبابه – فيرى أنها طبعات تجارية يهدف ناشريها إلى المكسب المادي بالدرجة الأولى وهذا أمر طبيعي في ظل الوضع الاقتصادي العربي المتردي .
أما الموقف الطريف الذي حدث بينه وبين أسرته فيقول عويضة : " أمسكت بي أمي في أحدى المرات وأنا أقرأ ذاكرة الجسد ، ولم تتركني إلا بعدما أسمعتني أنشودة اللوم والعتابات الخاصة بها ، فقد اعتقدت أن الرواية هابطة ولا يليق بي قراءتها " ؛ مبينًا أنه كان من المستحيل أن أيقنعها بالعكس لأنها لا تمتلك النفس الطويل لقراءة الرواية وبالتالي تغيير وجهة نظرها .
متى أفهم غسان
نور السويركي تجربة أخرى للطفلة والشابة المولعة بقراءة الروايات ، بدأت تجربة نور مع القراءة من الصف السادس الابتدائي إذ قرأت لأول مرة رواية "من قتل ليلى الحايك" للروائي الفلسطيني غسان كنفاني ، لم تفهم نور الرواية تمامًا كما لم تفهم أسماء أول رواية قرأتها ، ولم تتوقف بل طلبت مساعدة والدها _ وهو قارئ خطير للروايات _ فنصحها بمجموعة روايات أكثر بساطة، ومع مرور الوقت لم تغب رواية غسان عن ذاكرة السويركي فأعادت قراءتها في الثانوية العامة واستطاعت أن تفهم " من قتل ليلى الحايك ".
تقول نور : " أعتبر نفسي فتاة محظوظة لأن والدي قارئ نصوح أفادني كثيرًا وساعدني في اختياري للكتب ، ولأن كثيرًا من مدرسيّ قدموا لي الكتب وحثوني على مواصلة القراءة " ؛ لافتةً إلى الجريمة التي يرتكبها التعليم في معظم البلاد العربية فالمدارس ليست مستعدة لإمداد الطلاب بغير المناهج الدراسية ، وليست مستعدة لتخصيص حصص كافية للمطالعة .
ترى نور في الروايات طريقين للهروب : الأول هروب من جمود الحياة الأنثوية العربية ، والثاني هروب من جفاف الكتب العلمية الجامعية .
السويركي لم تنكر تأثير الوضع الاقتصادي على سلوكها القرائي ؛ مدللةً بأنها في إحدى المرات أحبت شراء وقراءة رواية ، لكنها لم تكن تملك ثمنها ؛ فاتفقت مع أختها وابنة عمها على توزيع المبلغ عليهن ؛ ومن ثم يتبادلن الرواية لقراءتها .
السويركي أيضًا لا تهوى قراءة الروايات المترجمة كونها بسيطة للغاية ، ولا تحب روايات الجيب كونها سلسلة متفرقة يصعب جمعها ، ولا تطيق الًنتاج العربي الحداثي كونه مبهم ومشفر ، لكنها تبحث دومًا عن روايات تجد فيها ما يعبر عنها كفتاة عربية .
رؤية الروائيين
كانت أسماء ووائل ونور صور عربية حية تجسد الإقبال الشبابي على الرواية كأحد الفنون الأدبية المعاصرة ، وكان مهمًا أن نلتقي واحدًا من كتاب هذا الفن وهو الروائي الفلسطيني عبد الله تايه .
رصد عبد الله تايه عدة أسباب شكلت ظاهرة اللهاث وراء الرواية وكان أهمها جمع الرواية بين جمال اللغة وتسلسل الحوادث ، ومخاطبتها للعقل والوجدان معًا ، وإشراكها القارئ في النقاش والحلول والتجارب إذ لم يعد القارئ العصري مجرد مستقبل سلبي بل إنه الآن مشارك إيجابي يطرح الأسئلة الكثيرة .
ويرى تايه أن التراجع العربي على صعيد الصراع في المنطقة ، وعدم وجود سياسة واضحة أدى إلى زيادة الاهتمام بالرواية سعيًا إلى مزيد من الفهم لهذا الواقع .
وإضافةً لما سبق فإنه يعتقد ان تدني مستوى المطبوعات الشعرية الحديثة كان في صالح الرواية ، وبدا تايه مستاءً من هذه المطبوعات فقال : " كثيرًا من دواوين الشعر التي تنشر لا تستحق النشر ، وليست إلا تسويد لصفحات بيضاء بكلام لا رابط فيه ولا حياة بعكس الرواية التي كانت دومًا حياة تسير بين دفتي كتاب " .
لم ينسى تايه أن يشير إلى أن الرواية العربية والقصة دخلتا إلى عالم السينما والتلفزيون مما أفاد بكثرة انتشارهما ؛ منوهًا إلى ان انتشار الرواية في الوطن العربي لازال بسيطًا في مقابل انتشار الرواية في الغرب ؛ ونافيًا أن يكون ميل الشباب للرواية هبوطًا في ذائقتهم الأدبية حتى وإن كانت مترجمة لسببين اثنين أن الروايات عالم جميل يستحق اللجوء إليه بعد يوم دراسي عربي مرهق ، وأن المترجم الذي يصلنا غالبًا ما يكون من أفضل الأعمال التي ينشرها الغرب في بلاده .
وعن روايات الجيب البوليسية وشبابنا فيقول : " قراءتها لاتنم عن تدهور ثقافي ، وباستطاعتها أن تنمي عادة القراءة عند أبنائنا ، وهي بديلٌ لا بأس به في ظل غياب أدب عربي خاص باليافعين " .
ويفسر تايه إخفاء بعض الأبناء الكتب عن أعين آبائهم بوجود قيم صعبة وحديدية عند الأسرة العربية والتي نصحها بتشكيل مكتبة داخل البيت تشتمل على كتب نافعة للأبناء في مراحلهم العمرية كما وطالب الهيئات الحكومية ووزارات الثقافة والهيئات الأهلية بإنشاء مكتبات عامة لأنها حسب رأيه أداة فاعلة لجني المعرفة والثقافة في ظل تدهور اقتصاد الأسرة العربية .
ويبقى حائرًا ذلك السؤال القائل : " إذا كانت المعرفة كنوزًا أثمن من الذهب والفضة ؛ فلم لا ندقُ كلَ الأبواب التي تنفتحُ عليها بدءًا من الروايات وانتهاءً بتجارب الكيمياء ونظريات الرياضيات ؟! " .